قصة نجاح: من خفير الى بروفيسور

تقرير // رقية الشفيع
الخرطوم فى 4-10-2018م (سونا - سوداناو) - قصة نجاح باهرة ومحفزة لرجل فوق العادة قل ان يجود به الزمان .رجل قهر المستحيل وتحدى الصعاب ولم يجد الياس له طريقا ابدا كان راعياً للغنم ولم يلتحق بمدرسة قط حتى بلوغه سن الخمسين، وعمل خفيراً بجامعة ام درمان الإسلامية، ثم وبطريقة اقرب للخيال دخلها أستاذاً محاضرا وعيناه تنظران بكل فخر وإعزاز الى كرسي الخفير الذي رفعه الى مقام الأستاذية. انها قصة نجاح باهرة ونادرة لهذا الرجل المسن صاحب الذهن المتقد والطموح اللامحدود.
عن هذه القصة المعجزة وهذا النجاح المدهش لهذا الرجل الذي طرق أبواب المستحيل حتى أحاله إلى واقع ملموس يلهم العبر و الدروس كان لابنه الاصغر يس قريب محمد راجع (42 عاما )مهندس يعمل بتدريس علوم وصيانة الحاسوب حديث خص به مجلة سوداناو التي وكالة السودان للأنباء قائلا" في قرية (معافي) إحدى ضواحي مدينة بارا بشمال كردفان.. كان ميلاد الطفل قريب محمد راجع في العام 1920م اوكعادة اطفال قريته ارتاد كل كتاتيب القرية كخلوة الشيخ عوض وحلقات العلم بمسجدها ثم خلوة الشيخ تاج الدين بقرية أم دايوقة بعدها ."
ويواصل في سرد قصة نجاح والده فيقول " ومن أجل تحقيق سبل عيش كريم أفضل انتقلت أسرته الى مدينة بارا وكان عمره لم يتجاوز وقتها السبع سنوات ، وقد وجد (قريب) فرصة للالتحاق بالمدرسة الأولية الوحيدة التي كان يعتبر من يدخلها من المحظوظين.. ولكن فجأة وبلا مقدمات قررت أسرته العودة ثانية الى القرية (معافى)لان والده كان له راي في ذلك الحين عن تلاميذ المدارس وبالتالي فقد الطفل (قريب) فرصة التعليم برغم تعلقه بمعرفة القراءة والكتابة وتطلعه للآفاق الأرحب .
وبعد عودة أسرته للقرية مارس رعي الأغنام والزراعة كبقية اقرانة من اطفال القرية وبعدها بعام واحد توفي والده فوجد الطفل قريب ذو السنوات التسع نفسه مسئولا عن والدته وعن اعالة وتدبير شؤن الاسرة . ولكن سرعان
ما تجدد أمله في مواصلة تعليمه فانتقل ثانية إلى مدينة بارا للعمل مع أحد معارف والده وكان له كنتين (متجر صغير) وكان يتقاضى مبلغ خمسة قروش وبدأ من خلال العمل التجاري يكتسب الخبرة العملية في التجارة وواصل تعلم مباديء القراءة والكتابة.
ولم يرجع الي معافي الا في العام 1944 اثناء الحرب العالمية الثانية وكان وقتها قد اتقن القراءة والكتابة من خلال اعمال التجارة وتوجه بعدها الي مدينة الابيض حيث عمل كاتبا ثم عاد مرة اخرى لبارا ليعمل بزريبة المحاصيل وتزوج في العام 1948 وانجب ابنه البكر وكان يتردد علي حلقة علم لاحد المشايخ بمدينة بارا يدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية وداوم اربعة سنوات علي هذه الحلقة حتى صار يفتي في بعض الامور حتى منح شهادة الإجازة من قبل الشيخ صاحب الحلقة عيسى محمد مختار ثم ساقته الصدفة إلى الخرطوم .
فيقول يس كان البروف يحكي بنفسه لنا عن بداية رحلته إلى المجد فيقول ( جئت الى الخرطوم مرافقاً لجدي والد امي لمعالجته بمستشفى الخرطوم، فنفد ما عندي من مال ومن ثم بدأت المعجزة في نسج خيوطها، عندما اضطررت للبحث عن عمل...ويقول: "كنت اذهب لأعرض نفسي يومياً في سوق العمال بأم درمان ولكن دون جدوى.
ولكن شاء القدر أن استأجرني احد العاملين بالشؤون الدينية للقيام ببعض الترميمات بمنزل قديم له بالقرب من مستشفى التجاني الماحي، وبعد انتهاء العمل قال لي انه لا يمانع ان أردت الإقامة بالمنزل وبعد ايام جاءني الرجل والحديث للبروف قريب " ليخبرني ان هناك وظائف بجامعة أم درمان الإسلامية التي كانت قد افتتحت حديثاً ولكنه ابدى أسفه لأن هذه الوظائف تتطلب الإلمام بالقراءة والكتابة، وعندها اخبرته بأنني أتقن القراءة والكتابة فاصطحبني مباشرة إلى مكاتب إدارة الجامعة . "
ويواصل في حديثه " وهناك تم اختباري ومن ثم عينت خفيراً بالجامعة، وكان عملي يتطلب مني كذلك القيام بخدمة عشرين طالباً يقيمون بمنزل واحد براتب شهري قدره تسعة جنيهات، وواجباتي كانت تشمل التنظيف والطبخ والحراسة. وقد استفدت كثيراً من وجودي بين هؤلاء الطلاب بالمنزل، حيث كنت استمع إلى مناقشاتهم وهي عادة لا تبتعد عن الفقه والتفسير واللغة، وقد كانت لي خلفيات في كل هذه المجالات، كما كنت اطلع على مذكراتهم الدراسية أثناء غيابهم حتى أنني أصبحت أجاريهم في كل ما يثار من نقاش "
وهنا يضيف الابن الاصغر للبروفيسور فقال ان والده وبما انه كان شاعرا ويكتب رباعيات لاشعار البادية في كردفان و يمتلك خيالا خصبا اذا كان يتخيل اشخاص موجودين امامه ويدور بينهم حوار وقصص وكان يكتب هذه التخيلات في اوراق ومذكرات ولاحظ احد الطلبة هذه المذكرات وقام بالاطلاع عليها واعجب بها وعرض عليه ان يذهب بها للاذاعة السودانية وتم قبول هذه الاعمال فتم التعاقد معه وصاركاتبا للدراما في اذاعة امدرمان واستمر ممارسا لهوايتة في الكتابة وكتب كثير من مسلسلات ذاع صيتها وجذبت المستمعين وبقيت في وجداننا لأمد طويل منها مسلسلات (حظ أم زين) و(الهمباتة) و(عشا البايتات) و(غرام زينوبة) و(أنا أمك يا سند) و(البراق) و(عقدة الثأر) و(عودة الخمجان).
ومازل الحديث للإبن الاصغر للبروفيسور قريب فقال من هنا بدأت خطوات والدي تقترب نحو المجد، حيث كان يجلس في الامسيات بعد نهاية عمله مع الطلبة وهم يستذكرون دروسهم جماعيا ويتداخل معهم في كثير من الأحيان من خلال ما قرأه وسمعه منهم فعرض عليه احد الطلاب ( بشير علي حمد الترابي ) أن يذهب لمسجد امدرمان الكبير في اوقات فراغه لحضور دروس الفقة والحديث والتفسير وربما يجد فرصة للجلوس لشهادة (الاجازة) فاستجاب للعرض وتمكن من الجلوس لامتحان الإجازة للالتحاق بمعهد ام درمان العلمي بعد ان انتظم بحلقات العلم التي كانت تقام بمسجد ام درمان الكبير، وكان قد تجاوز الخمسين من عمره وبعد عام من دراسته بالمعهد العلمي نال الشهادة الأهلية التي أهلته لدخول جامعة ام درمان الإسلامية ضمن طلبتها وتخرج فيها بحلول العام 1978م وعمره يناهز الثامنة والخمسين، وبعد التخرج تم تعديل وظيفتة من عامل الي اداري (رئيس عمال ومشرف) .
هنا إنتبهت اليه إدارة الجامعة حيث لفت نجاحة ومثابرته نظر كبار المسؤولين في الدولة، فتعهده وزير الثقافة والإعلام المرحوم عمر الحاج موسى بالرعاية حتى تمكن من الحصول على درجة الماجستير بإمتياز،بعدافتتاح كلية الدراسات العليا لجامعة امدرمان الاسلامية وكان له شرف أول طالب يحصل علي شهادة ماجستير تمنح من جامعة ام درمان الإسلامية وذلك عن بحث اعده بعنوان (تخريج احاديث أبوذر الغفاري في مسند الإمام احمد)، وكان المناقش الخارجي للرسالة هو الشيخ الحسيني عبد المجيد هاشم، وكيل جامعة الأزهر، حيث لم يكن وقتها يوجد اساتذة متخصصون في ذات المجال بالسودان .
اما درجة الدكتوراه كما يقول إبنه المهندس يس فكان لها حديث اخر حيث يقول بدأ الوالد عليه رحمة الله الدكتوراة وهو في سن السادسة والستين قائلا اننا وقتها نسكن في منزلنا الحالي بامبدة بامدرمان قبل التخطيط وكان منزلا (عشوائيا) لاتوجد خدمات ضرورية كالكهرباء والمياه وكنا نستذكر دروسنا بلمبة الجاز والشمع وكنا نواجه متاعب كثيرة اما الوالد فكانت معاناته من نوع اخر فبعد رجوعه من الدوام كان ياخذ قسطا من الراحة وقبل المغرب يذهب لمنزل صديق له سيرا على الأقدام على بعد كيلو ونص تقريبا حيث خصص له غرفة يجلس فيها ويقرا ويكتب ويقوم بجمع المعلومات عن موضوع الرسالة وكنا نحن بالمنزل نساعده ببعض الكتابات اذ كان يخصص لكل واحد منا احد الكتب ليكتب له من صفحة كذا الي صفحة كذا حتى اكتملت الرسالة في العام 1998وبعد ذلك وفي يوم- نحن نعتبره اسودا - الا ان والدنا البروفيسور يرى غير ذلك ايمانا منه باقدار الله فقد احترقت الرسالة كاملة بعد ان كانت معدة للطبع بين ليلة وضحاها اصبحت رمادا وجهد السنين يضيع في لحظة الا ان هذا الرجل المؤمن القوي صاحب الهمة العالية والعزيمة التي فتت الصخر لم تلن له همة ولم يدب الياس في نفسه وكان دوما يردد( أمر المؤمن كله خير والخير فيما يختار الله )فهب من جديد وكله إصرار وحماس علي المواصلة حتى اكملها وتمت المناقشة ونال الدكتوراة بتقدير ممتاز ولله الحمد فكانت أطروحته عن (توحيد وإثبات كتاب ابن خزيمة) ليعمل بعد ذلك في ذات الجامعة التي كان يعمل بها خفيراً فأصبح استاذاً بقاعات محاضراتها يصول ويجول بكل فخر داخل قاعاتها ومدرجاتها وعالماً مرموقاً بين أروقتها ومحافلها ومنتدياتها وبذلك استحق اعجاب الجميع الذين اخذتهم الدهشة لإصرار هذا الرجل ومثابرته وقصة نجاحه المنقطعة النظير.
وظلَّ بروفيسور قريب محمد راجع مواصلاً تحصيله العلمي إلى أن نال الأستاذية وكان له شهرة واسعة في الاوساط العلمية داخل وخارج السودان خاصة في المملكة العربية السعودية حيث عرضوا عليه عدة مرات أن يعمل في جامعة طيبة بالمدينة المنورة وجامعة ام القرى بمكة المكرمة الا انه رفض وفضل العمل بجامعة امدرمان الاسلامية التي ظل يعمل بها الي ان تقاعد للمعاش في العام 1994وتحول منزله بأمبدة بأم درمان لمنارة إشعاع علمي وثقافي .
ويواصل يس حديثة الثر عن والده البروف فقال ان والده عاد مرة اخرى الي الموطن الاصلي ومسقط راسه قرية معافي في اواخر العام 1994 وبمساعدة من احد المحسنين السعوديين قام ببناء مسجد بالقرية والحق به حلوة وقد كانت الفكرة هي بناء معهد ديني متكامل الا ان الفكرة وجدت حرب شرسة جدا من البعض لاعتقادات حزبية وسياسية _ المهم وجدت الفكرة معارضة علنية وحرب شرسة تتمثل هذه الحرب في سرقة مواد البناء وبعض الهدم في بعض الاحيان حتي اصيب الوالد بالياس وعاد الى مكانه من حيث اتى .
وقال يس "لكن عزيمة الوالد لم توهن واصراره على اكتمال المشروع كان اكبر وبمساعدة ابنائه محمد ومحمد الهادي بالدعم المالي والمعنوي ومحمد احمد بالتفرغ والاقامة معه ومتابعة للمشروع والاشراف عليه حتى اكتمل المسجد بحمد الله وتم افتتاحه في العام 1998م "
و ظل الوالد يحارب الجهل والامية في ربوع كردفان و كل القرى المجاورة كانت تطلب منه الحضور لاقامة المحاضرات وليسالوا ويتفقهوا في بعد امور دينهم وطلبوا منه الاقامة عندهم في قراهم ولكنه كان يرفض بحجة ان اهله اولى به وهم احوج له وقد كان الوالد في هذه الفترة موظف في الملحقية الدينية السعودية كداعية كانت الملحقية تقوم بوضع برامج دعوية في منطقة ما بولايات كردفان وتكلفة بتنفيذ هذه البرامج فكان يسافر في كل اصقاع كردفان لاعطاء بعض الدروس حتى العام ٢٠٠٦ حيث اصيب في عينه فاضطر للعودة للخرطوم ومعاودة الاطباء باحد المستشفيات بالخرطوم بغرض الاستشفاء ولكن باءت كل المحاولات بالفشل فاضطر الاطباء لاجراء عملية تمويت جذور او قتل هذه الاعصاب وبخطأ طبي اجريت العملية للعين السليمة وخرج الوالد عليه الرحمة اعمى البصر ورفض الابلاغ عن المستشفى وقال ان هذا قدره وهو راضي بماقدر الله له
ومن هنا بدأت معاناة من نوع اخر وقد كانت اكبر مشكلة تواجهه هي القراءة والكتابة لان هذه هي الهواية التي لم يتوقف عنها ابدا فما كان منه الا ان يطلب من كل من يمر به ان ياتي بكتاب كذا واقراء لي من باب كذا ويستمع ولكن لم تكن تشبع رغبته
وقد ظلت مسيرة هذا الرجل الشعرية وسيرته العلمية مستمرة حتى بلغ الثامنة والثمانين من عمره فكان قادراً على العطاء وإسعاد الآخرين وزرع الابتسامة على وجوهم، فقدرته لم تحدها أو يشلها ما أصابه مؤخراً من العمى وفقد البصر، فبصيرته تبصر وقلبه يرى.
وظل قريب محمد راجع بقريتة (معافي) التي ولد ونشأ في احضانها وترعرع بين سهولها ووديانها التي الهمته هذه الموهبة الكبيرة في الشعر والكتابة والخيال الواسع الخصب وتشرب منها بالعزيمة والصبر حتي وصل الي ما وصل اليه إلى أن توفاه الله بها في السابع عشر من مارس عام 2011 الى رحاب الله تعالى رحمة الله وتم دفنه بمقابر الشيخ حمدالنيل بامدرمان .
لماذا لا نتواضع على تكريم هذا الرجل تكريماً عالمياً يتناسب مع ما حققه من نجاح ، وحسناً مافعله إبنه محمد وهو ينتج عنه فيلماً وثائقياً سنراه قريباً بإذن الله .
فلم يكن منحه وسام العلم والآداب والفنون في العام 2003م من الدولة الا تقديرا صادف أهله، وامتيازا وقع في صميم مكانه. وللبروفيسور قِرَيِّبْ محمد راجع عدد من المؤلفات والبحوث العلمية وله اسهامات عامة كثيرة تجد عند المتلقين كل تقدير واحترام، كما ان شاعريته اضافت الى شخصيته ابعاداً جذابة جعلته محل اهتمام كل من له صلة بالأدب
لم ينس المهندس يس قريب وهو يختتم حديثه (لسونا -سوداناو) ان يذكر دور الوالدة الحاجة فاطمة ابو البشر مصطفي سالم فيما وصل اليه الوالد فقد كان لها دور كبير وعظيم جدا في دعم ومساندة وصبر على تربية الاولاد في غياب الوالد لان الوالد كان يقيم في داخليات الطلاب حسب متطلبات الوظيفة من حراسة ونظافة ومن غرائب الصدف ان الطالب صاحب فكرة دخول قريب للجامعه كان احد الاستاذة الذين اشرفوا علي مناقشة رسالة الماجستير بعد صار استاذا بالجامعه وهو الدكتور بشير حمد الترابي ، وعند مناقشة رسالة الدكتوراة وبعد النتيجة كان هناك تكريم خاص من بروفيسور كامل الباقر مدير الجامعة في ذلك الحين وقال مقولة ظلت راسخة في اذهاننا الي يومنا هذا قال : ( لو كان الاسلام يبيح التماثيل لجعلنا للدكتور قريب تمثالا في كل مداخل هذه الجامعة) .
بعد ان تم نشر هذا الموضوع بمجلة( سوداناو الالكترونية التي تصدرها وكالة السودان للأنباء ) قامت أرسلت (قلوبال افريكا) (وكالة انباء بريطانية ) مندوبها بالخرطوم للاتصال بجامعة امدرمان الاسلامية لمعرفة عنوان ومنزل و أسرة البروف قريب وزيارتهم وعمل فلم وثائقي يحكي قصة حياة ومسيرة البروف قريب لنشره وتسويقة كنموزج نادر يعبر عن نجاح وطموحات الرجل السوداني .